كل شيء في الحروب مباح، وكل الأفلام حلال مهما شكك في مصداقية الإخراج المبطلون. وعلى المواطنين الوطنيين جدا أن يقفوا على شباك التذاكر في فيالق منتظمة ليدافعوا عن سمعة رجالهم الأشاوس وإن كانوا أبطالا من إلكترون، وألا يسمحوا لأعداء الوطن بهدم النصب التذكارية التي تخلد الأكاذيب الوطنية جدا وتمس سمعة رجال صدقوا ما عاهدوا المخرج عليه.
حقق فيلم “رجال بانفيلوف الثمانية والعشرون” أرقاما قياسية عام 2016، وتم تصنيفه كأفضل فيلم روسي حينها؛ كما كان الرئيس فيلاديمير بوتين في مقدمة المروجين للفيلم، حيث قام باصطحاب الرئيس الكازاخستاني نزارباييف لمشاهدة العرض بنفسه. إلا أن هذه الضجة المفتعلة قد أثارت تحفظات الكثير من النقاد والمؤرخين داخل روسيا وخارجها لما ينطوي عليه الفيلم من أكاذيب وأحداث مختلقة.
يحكي الفيلم، والذي تدور أحداثه عند تخوم موسكو إبان الحرب العالمية الثانية، قصة كتيبة روسية مؤلفة من ثمانية وعشرين مقاتلا تم تكليفهم بقطع الطريق أمام الدبابات الألمانية التي كانت في طريقها إلى موسكو وداخل الخندق المقاوم، ثبتت الأقدام وتحركت الأذرع، لتسقط على الدبابات الزاحفة وابلا من قنابل يدوية وزخات من رصاص الحي من بنادق آلية.
لم يكن أبطال روسيا يمتلكون دروعا مضادة للدبابات أو أسلحة ثقيلة، لكن عتادهم الروحي مكنهم من التغلب على بضع وخمسين دبابة أعطبت كلها في معركة غير متكافئة. صحيح أن الفرقة قد هلكت عن آخرها، إلا أنها تمكنت من إيقاف زحف الغزاة نحو العاصمة، فكان حقا على الرئيس الروسي أن يأمر بتشييد نصب تذكاري لهم قرب ساحة المعركة وأن يمنحهم لقب “أبطال الاتحاد السوفييتي” ولا زالت العديد من المدارس السوفييتية تحمل أسماء أفراد الكتيبة حتى يومنا هذا.
القصة درامية إلى حد بعيد لكنها غير حزينة، والصورة مظلمة نوعا لكنها غير كئيبة، والمشهد دموي بامتياز لكنه غير مقزز، فقد طغت الروح البطولية على قتامة المشهد، واستطاعت الكلمات الحماسية أن تذيب جليد الموت.
وكاد المشاهد الروسي أن يطير زهوا وهو يري رفاق السلاح يرفعون فوهات بنادقهم باتجاه صدر “رفيق” لهم قرر أن يلقي سلاحه ويستسلم للغزاة. لكن الدعاية الهائلة التي صاحبت أيام العرض، والأموال الطائلة التي أنفقت على الفيلم: والإيرادات الهائلة التي حصدها صناعه لم تستطع أن تستميل النقاد أو تجبرهم على الصمت.
فقد أكد تقرير تم تسريبه إبان تصوير الفيلم أن الكثير من المشاهد مفبركة، وأن معظم الأحداث ملفقة، وأن الحبكة لا تمت لما حدث على أرض المعركة بوثيق صلة فستة من هؤلاء الجند على الأقل لا يزالون أحياء يرزقون، وأحد أفراد الكتيبة على الأقل قد تأكد استسلامه للعدو ونقله إلى الجولانج ليمارس من هناك خيانته غير مشروعة للوطن.
كان التقرير بمثابة صدمة، حيث تلقاه المنتج أندريه شالوبا باستخفاف غير مبرر، موجها أصابع الاتهام إلى أنوف بعض النقاد الذين “لا يحبون الوطن ولا يعشقون ترابه، والذين دفعتهم أحقادهم التاريخية إلى تشويه مآثر حفنة من أخلص رجال الوطن الذين ضحوا بأرواحهم للوقوف في وجه الطاغية الذي قتل أكثر من 20 مليون مواطن سوفياتي بدم بارد”.
لكن لغته الحماسية لم تقابل بالكثير من الترحيب من قبل الكثيرين الذين لم يقعوا فريسة لسلطان الكلمة وهيمنة الكادر كما لم تفلح وزارتا الثقافة في روسيا وكازاخستان، واللتان دعمتا الإنتاج المشترك للفيلم بأموال الشعب، في دحض حجج المؤرخين وإبطال دعاواهم.
استطاعت حرب أوكرانيا مؤخرا أن تخمد الملاسنة بين أصحاب الوطن المشغول، ووجد الفريقان نفسيهما في خندق واحد مظلم في مواجهة دبابات تحمل أعلام الخرائط كلها في معركة هي الأشرس من نوعها منذ الحرب العالمية الثانية.
فهل يضع المؤرخون الروس تقاريرهم في أدراج الوطن المهملة، ولو بصفة مؤقتة، لينضموا إلى أدعياء الوطنية الزائفة في خندق المقاومة وإنتاج أفلام مشتركة؟ أم هل تدفعهم خصوماتهم القديمة وثاراتهم المنسية نحو الجولانج ليمارسوا خيانة الوطن وينتجوا أفلاما أكثر واقعية وأقل وطنية؟